عازفة أمستردام- بهجة الحياة في وجه السرطان
المؤلف: فؤاد مصطفى عزب08.16.2025

في الأسبوع الفائت، قمت بزيارة صديق لي، وهو طبيب متخصص في معالجة الأورام السرطانية، هولندي الجنسية ومن أصول مصرية. يقيم في مكان ساحر على ضفاف الماء في مدينة أمستردام. شعرت بدوار خفيف حتى تمكنت من الوصول إلى منزله الفريد المطل على النهر، والذي يرتفع شامخًا خلف سياج خشبي وسط حديقة غناء، لينعزل في أحضان الخضرة والنسيم العليل. كانت رائحة اليود المنعشة تهب من المياه المجاورة، والسماء الصافية ترسل إليه أشعة نورانية دافئة. قامت زوجته اللطيفة، ليزا، بإعداد مأدبة عشاء خفيفة في الحديقة. بعد أن تناولت الطعام واستعدت توازني الجسدي والنفسي، بدأ الحديث يتدفق بسلاسة، وتزايدت الأسئلة المقلقة حول أحوال الأصدقاء والزملاء، والوضع الراهن في بلداننا. تطرقنا إلى موضوع الغربة القاسية، والابتعاد عن الوطن الأم، وإحساس اللا انتماء الذي يلازم المغترب، وكيف تصبح الفنادق مأوى أكثر ألفة في بعض الأحيان. لطالما كان اختلافنا كبيرًا في تحديد معنى الغربة الحقيقي. انتهى بنا المطاف في مقهى صغير على أحد أرصفة مدينة أمستردام الساحرة، حيث تنتشر المقاهي والمطاعم الأنيقة. سألته بتعجب: "هل أتيت بي إلى هنا لاستعادة الذكريات؟ فقد شهد هذا المقهى المتواضع أسعد لحظاتنا في أمستردام". أجابني بصوت حزين: "لم يتبق لي شيء جميل وحقيقي بعد الستين سوى قراءة ملامح الأماكن". كانت السماء مرصعة بنجوم لامعة وقمر فضي ينير المكان بكل وضوح، فليس هناك الكثير من الأسرار في هذه المدينة الجميلة. ظهرت فجأة في الساحة فنانة ساحرة ترتدي فستانًا من الستان الأزرق السماوي، وتحمل كمانًا مرصعًا بالكريستال. بدأت تعزف بأناملها الرقيقة ألحانًا فرنسية قديمة، ثم استبدلت الكمان بجيتار كهربائي موصول بمكبر صوت، وشرعت في غناء "حلوة يا بلدي" للمطربة داليدا، المرأة التي أحبت بصدق وعاشت حياة مليئة بالشغف. كانت ترقص وهي تغني بحيوية، وكأنها غزال بري. ظننت للحظة أن ما أراه يحدث فقط في الروايات والأفلام، أن أستمع إلى موسيقى وأغانٍ عربية في قلب أمستردام. توقفت قليلًا ثم غنت "باكتب اسمك يا بلادي على الشمس الـ ما تغيب". كانت شابة في غاية الجمال، ببشرة ذهبية وعينين عسليتين واسعتين، وتزين أذنيها أقراط لامعة، وعلى رقبتها وشم عربي يمتد من الترقوة باتجاه أذنها اليسرى. فنانة مفعمة بالحيوية والطاقة، استطاعت أن تأسر قلوب الجمهور المتحلق حولها، وبدأت في غناء "found my love in Portofino". ولم تتوقف عن سرقة قلوب الساهرين القادمين من كل مكان بحثًا عن السعادة والبهجة، ثم بدأت بغناء "Hello" للمطربة أديل، فانسجم الفتيان والفتيات معها في الرقص، والتقط البعض منهم صورًا تذكارية لنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي. بعد أن انتهت، بدأت تحيي الجمهور بكل اللغات، وتلقي التحية على كل من وضع النقود في علبة الكمان الجلدية المفتوحة على الأرض. فجأة، تقدمت نحو صديقي الدكتور وألقت عليه تحية خاصة بعبارة مصرية أصيلة. سألت صديقي باستغراب: "هل تعرفها؟!" أجابني وهو يضغط على شفتيه: "إنها إحدى مرضاي". شعرت بحزن عميق، كالحزن الذي يظهر على وجه رجل يعترف بحبه لامرأة للمرة الأولى، ثم يمضي في طريقه غير مبالٍ بالرد. كتمت دمعتي وسألته عن نوع السرطان الذي تعاني منه، فأجابني بعد تردد: "مصابة بنوع شرس من السرطان، وأيامها قصيرة. ألم تلاحظ بقايا شعرها الخفيف أسفل الكوفية؟ لقد تساقط شعرها بسبب العلاج الكيميائي". لم أستطع النطق بكلمة واحدة، لقد صدمتني هذه الحقيقة المرة. يا له من مرض قذر لا يعرف الرحمة! لم يرحم شبابها ونضارتها، ولم يلتفت إلى رغبتها الجامحة في الحياة. صورة الجيتار وهي تغني "الدانوب الأزرق" لـ(شتراوس) و"ضوء القمر" لـ(بيتهوفن) و"شهرزاد" لـ(كورساكوف) لا تفارق خيالي، ولكن لم يعد لها تأثير في قلبي، فالكلمة اللعينة "سرطان" مرتبطة بالموت، إنها بطاقة إنذار أخيرة يرفعها الجسم في وجه صاحبه، لتسد طرق الأشياء الجميلة كلها. نظرت إلى ساعتي وقلت لصديقي: "الوقت تأخر كثيرًا، وقد انتهى وقت الضيافة". سأذهب إلى فندق قريب حتى الصباح. قال لي: "المدينة التي لا تجد فيها سرير صديق ليست لك". رافقته إلى منزله، وابتسامة الفنانة الشابة المضيئة والتي تشبه الزهور المتفتحة تلاحقني، وتجعلني أتساءل كيف تستمد تلك المسكينة كل تلك الطاقة والشعور بالبهجة لإسعاد كل أولئك الناس وهي على حافة الموت! يبدو أن جمال الحياة يكمن فعلاً في النصف الآخر. رحمتك يا رب!